التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
المأمون بن ذي النون، مقال د. راغب السرجاني، يتناول حياة المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة بين ملوك الطوائف في الأندلس، وتوسع المأمون على حساب قرطبة وبلنسية
توسعات المأمون بن ذي النون
تُوُفِّيَ الظافر إسماعيل وملك من بعده ابنه يحيى الملقب بالمأمون، وذلك سنة (435هـ=1043م)، وسار المأمون بن ذي النون، على سُنَّة أبيه في تسيير أمور مملكته المترامية الأطراف، فأقام بين الناس بالعدل، وكانت السياسة التي انتهجها المأمون في بداية عهده سبيلاً لاتساع مملكته.
لم يكن عهد المأمون عهد هدوء واستقرار، وإنما كان عهد تنازع وفراق بينه وبين ملوك الطوائف الأخرى، وكان من شدَّة هذا التنازع والفراق أن ظهرت الخسَّة والنذالة، واستعانوا بالنصارى بعضهم على بعض، وضعفت قوَّة الأطراف المتنازعة، وهذا ما حدا بالنصارى أن يُغِيرُوا على أملاك المسلمين، ولا يجدون رادعًا يردعهم، ولا قوَّةً تطاردهم؛ فنُهِبَت البلاد، وسُرقت الأموال، وسُبيت النساء، وقُتل الأطفال والرجال، وحكام الطوائف يتنازعون على أعراض زائلة، فخسروا دينهم ودنياهم، وما أشبه الليلة بالبارحة!
فعلى الرغم من اتساع مُلك المأمون بن ذي النون إلا أنه شغل خلال فترة حكمه الثلاث والثلاثين بالتخاصم مع ملوك الطوائف الآخرين، وخاصة عدوَّه اللدود سليمان المستعين بن هود صاحب سَرَقُسْطَة، والمعتضد بن عباد صاحب إِشْبِيلِيَة ومن بعده ابنه المعتمد، وابن الأفطس صاحب بَطَلْيُوس.
الصراع بين المأمون وسليمان بن هود
بيد أن حروب المأمون الأشد شراسة كانت مع سليمان بن هود صاحب سرقسطة؛ خاصة أنها حروب على المناطق الحدودية بينهما، ولعلها كذلك الأشدَّ وقعًا على الإسلام والمسلمين؛ إذ استعان كلٌّ منهما على أخيه بالنصارى أصحاب قشتالة، الذين عاثوا في أراضي المسلمين تحت سمعهم وأبصارهم، على نحو ما سنُبَيِّنُه إن شاء الله.
المأمون والدخول في طاعة هشام المؤيد
ومن أشهر الأعمال التي قام بها المأمون بن ذي النون دخوله في طاعة هشام المؤيد بالله (أو شبيهه على وجه الدقة) التي دعا إليها المعتضد بن عباد؛ وذلك طمعًا في نصرته ضد عدوِّه سليمان بن هود، وبالفعل قَبِلَ المعتضد الأمر ووعده بالتناصر والتظافر ضد خصمه، وأُخذت البيعة لهشام المؤيد المزعوم في طُلَيْطِلَة، وأُعلن له بالدعاء على المنابر، ولكن يبدو أن المأمون ذهب به الطمع الخائب كل مذهب، وغرَّه الأمل واتَّبع الباطل، واشتغل عنه المعتضد بحروبه ضد ابن الأفطس، ولم ينل من ابن عباد أي شيء، وعاد من بيعته بخفي حنين[1].
المأمون والاستيلاء على بلنسية
وكان من أهمِّ أعمال المأمون -كذلك- الاستيلاء على بَلَنْسِيَة وأعمالها سنة (457هـ=1065م)؛ حيث كانت تحت حكم عبد الملك بن عبد العزيز حفيد المنصور بن أبي عامر، وكان صهرًا للمأمون حيث تزوَّج ابنته عقب وفاة أخيه زوجها الأول، فأهانها وأساء عشرتها، وكان سيئ السيرة، منهمكًا في الشراب والخلاعة، مع نقصٍ في المروءة والانحطاط في مهاوي اللذات الوضيعة، وكان ذلك سبيلاً لزوال مُلكه، على ما جنت يداه، وهو ما حدث بالفعل، فلمَّا علم المأمون بحال ابنته مع عبد الملك بن عبد العزيز حقد عليه، وأضمر الشرَّ له.
وهناك في استيلاء المأمون على بَلَنْسِيَة روايتان؛ الأولى: أن المأمون قدم على عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر من طُلَيْطِلَة على سبيل الزيارة، وهناك استقبله صاحب بَلَنْسِيَة أحسن استقبال هو وغلمانه وعبيد القصر، فأقام المأمون عنده أيامًا، ثم دبَّر لعبد الملك مكيدة ذات ليلة، فقبض عليه وعلى ابنه وأخرجهما ليلاً إلى شَنْتَمبَرِيَّة، وقيل: إلى قلعة أُقْلِيش. وبعدها تملَّك المأمون شرق الأندلس دون كلفة ولا مشقَّة ولا دماء، والرواية الثانية تقول: إن المأمون استعان بملك قشتالة على صهره صاحب بَلَنْسِيَة، فاستولى عليها واعتقل عبد الملك وابنه، وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 457هـ، وقيل: سنة (458هـ=1065م) [2].
المأمون والاستيلاء على قرطبة
وأمام توسُّعات المأمون كانت قرطبة محلَّ نظره منذ زمن، وكان يتحيَّن الفرص للانقضاض عليها، وهو ما حدث بالفعل حينما اضطربت الأمور عقب تولِّي عبد الملك بن جهور أمورها وأساء السيرة بين أهلها، فأغار المأمون عليها عام 462هـ، فاستغاث عبد الملك بن جهور بالمعتمد بن عباد، وكانت تلك نهاية بني جهور في قُرْطُبَة[3]، على نحو ما سنذكره في فصل التناحر بين ملوك الطوائف إن شاء الله.
بلاط المأمون بن ذي النون
مع كل هذه الحروب والنزاعات التي شهدتها فترة حُكم المأمون، إلا أنه يُعَدُّ أطول ملوك الطوائف عهدًا؛ فقد دام مُلكه ثلاث وثلاثين سنة، واتَّسعت رقعة مُلكه حتى ملك بَلَنْسِيَة وأعمالها في شرق الأندلس، وعظمت خزائن المأمون حتى قصده الشعراء والعلماء، وأكثر المأمون من تشييد القصور الفخمة، والمجالس الباهرة، ومن أشهرها مجلسه المسمى «المكرم»، ونحن ننقل هنا وصفه؛ ليرى القارئ الكريم مدى الرغد الذي ورثه ملوك الطوائف من عصر الأمجاد، فأضافوا إليه وتفننوا وأبدعوا، ثم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فصارت هذه الذخائر مطمعًا للنصارى يحوزونها بافتراق المسلمين وتناحرهم، بل استطاعت ممالك الأندلس أن تظلَّ قرنًا تموِّل الممالك النصرانية بما تدفعه من جزية[4].
وصف مجلس المكرم
هذا وصف مجلس المكرم كما يورده ابن حيان ناقلاً له على لسان ابن جابر شاهد العيان: «وكنتُ ممن أذهَلَتْه فتنةُ ذلك المجلس، وأغربُ ما قيَّدَ لَحْظِي من بهيِّ زُخْرفه -الذي كاد يَحبس عيني عن الترقي عنه إلى ما فوقَه- إزارُه الرائع الدائر بأسِّه حيثُ دار، وهو مُتَّخَذٌ من رفيعِ المَرْمَرِ الأبيض المسنون، الزَّاريةِ صفحاتُه بالعاجِ في صِدْقِ الملاسةِ ونَصاعةِ التلوين، قد خُرِّمَتْ في جُثمانه صُوَرٌ لبهائمَ وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلَّق كثيرٌ من تلك التماثيل المصوَّرة بما يليها من أفنان أشجار وأشكالِ الثمر ما بين جانٍ([5]) وعابث[6]، وعَلق بعضُها بعضًا بين مُلاعبٍ ومُثاقف، تَرنو إلى مَنْ تأمَّلها بألحاظ عاطف، كأنها مُقْبِلَةٌ عليه، أو مُشيرة إليه، وكلُّ صورة منها مُنفردةٌ عن صاحبتها، مُتميِّزةٌ من شكلها، تَكادُ تُقَيِّد البصرَ عن التعلِّي إلى ما فوقها. قد فَصَل هذا الإزارَ عمَّا فوقه كِتَابُ نَقْشٍ عريضُ التقدير، مُخَرَّمٌ مَحفور، دائرٌ بالمجلسِ الجليلِ من داخله، قد خَطَّه المِنْقَارُ أبين من خطِّ التزوير، قائمُ الحروفِ بديعُ الشكل، مُسْتبينٌ على البُعْدِ، مرقومٌ كلُّه بأشعارٍ حِسان، قد تُخيِّرتْ في أماديحِ مُخْتَرِعِهِ المأمون. وفوقَ هذا الكتابِ الفاصلِ في هذا المجلس بُحورٌ منتظمة من الزجاج الملوَّن، المُلَبَّسِ بالذهب الإبريز[7]، وقد أُجريت فيه أشكالُ حيوانٍ وأطيار، وصورُ أنعامٍ وأشجار، يُذهل الألبابَ ويُقَيِّد الأبصار. وأرضُ هذه البحار مَدحوَّة من أوراق الذهب الإبريز، مُصَوَّرَةٌ بأمثال تلك التصاوير من الحيوانِ والأشجارِ بأتقنِ تصويرٍ وأبدع تقدير.
ثم قال: ولهذه الدار بُحَيْرَتَان، قد نُصَّتْ[8] على أركانهما صُوَرُ أسودٍ مَصوغَةٌ من الذهب الإبريز أحكمَ صياغة، تتخيَّل لمتأمِّلها كالحةَ الوجُوه[9] فاغرةَ[10] الشُّدوق[11]، ينساب من أفواهها نحو البُحيرتين الماءُ هَوْنًا كرَشِيش القَطْر أو سُحَالَة اللُّجَين[12]. وقد وُضع في قعر كلِّ بحيرة منهما حوضُ رخام يُسمَّى المَذْبَح، محفورٌ من رفيع المرمر، كبيرُ الجِرْم[13]، غريبُ الشكل، بديعُ النقش؛ قد أُبرزتْ في جَنَبَاتِه صُوَرُ حيوانٍ وأطيارٍ وأشجار، وينحصرُ ماؤهما في شَجَرَتَيْ فضَّة عاليتي الأصلين، غَريبتي الشكل، مُحكمتي الصَّنْعة، قد غُرِزَتْ كل شجرة منها وَسَطَ كل مَذبحٍ بأدقِّ صناعة، يترقَّى فيهما الماءُ من المذبحين، فيَنْصَبُّ من أعالي أفنانهما انصباب رذاذ المطر أو رَشَاش التندية، فتحدُثُ لمَخْرَجِه نَغماتٌ تُصبي النفوس، ويرتفعُ بذرْوَتها عمودُ ماء ضخم مُنضغط الاندفاع، ينساب من أفواهها ويُبَلِّل أشخاصَ أطيارها وثمارها، بألسنةٍ كالمبارد الصقيلة، يُقَيِّد حُسْنها الألحاظَ الثاقبةَ، ويدع الأذهانَ الحادَّةَ كليلة»[14].
والواقع أنه لم يكن ببلاط المأمون بن ذي النون للشعر والأدب دولة زاهرة، كما كان الشأن في إِشْبِيلِيَة وبَطَلْيُوس، بيد أننا نجد أكابر شعراء العصر وعلمائه يعيشون في ظلِّ المأمون، وكان من هؤلاء شاعره ابن أرفع رأسه[15]، صاحب الموشحات المشهورة، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمَّى «طبقات الأمم»، وكان يُلقي دروسه في المسجد الجامع، والعلامة النباتي ابن بصال الطليطلي[16].
ويجدر بنا ونحن على مشارف الانتهاء من حياة المأمون بن ذي النون أن نذكر أن ابن حيان المؤرخ الأندلسي الكبير لم يجد مَنْ يُهدي كتابه (التاريخ الكبير) سوى للمأمون؛ إذ قال في مفتتحه: «وكنتُ اعتقدتُ الاستئثار به لنفسي، وخَبْأهُ لولدي، والضنَّ بفوائده الجمَّة... إلى أن رأيتُ زفافه إلى ذي خطبة سَنِيَّة أتتني على بُعْدِ الدار، أكرم خاطبٍ وأسنى ذي همَّة، الأمير المؤثَّل[17] الإمارة المأمون ذي المجدين، الكريم الطرفين، يحيى بن ذي النون [18]»[19].
[2] ابن الأبار: الحلة السيراء 2/129، وابن عذاري: البيان المغرب 3/266، 267، 303، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/101، 102.
[3] ابن بسام: الذخيرة 2/609-611، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/260، 261، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص149-152.
[4] بدرو شلميطا: صورة تقريبية للاقتصاد الأندلسي، منشور في: سلمى الخضراء الجيوسي: الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، 2/1060.
[5] الثمر الجاني: الثَّمر الذي تستطيع أخذه وجنيه ما دام طَرِيًّا رطبًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة جني 14/153، والمعجم الوسيط 1/141.
[8] نصَّ: رفع ووضع على المِنَصَّة؛ أَي: على غاية الشهرة والظهور. ابن منظور: لسان العرب، مادة نصص 7/97، والمعجم الوسيط 2/926.
[9] كالحة الوجوه: مكشرة عابسة. الجوهري: الصحاح، باب الحاء فصل الكاف 1/399، وابن منظور: لسان العرب، مادة كلح 2/574، والمعجم الوسيط 2/795.
[10] فغر: فتح في انتفاخ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الفاء 2/782، وابن منظور: لسان العرب، مادة فغر 5/59، والمعجم الوسيط 2/696.
[11] الشدوق جمع الشِّدْق: وهو جانب الفم. انظر: الجوهري: الصحاح، باب القاف فصل الشين 4/1500، وابن منظور: لسان العرب، مادة شدق 10/172، والمعجم الوسيط 1/476.
[12] سحالة اللجين: ما سقط من الفضة كالبرادة. الجوهري: الصحاح، باب اللام فصل السين 5/1727، وابن منظور: لسان العرب، مادة سحل 11/327، والمعجم الوسيط 1/420.
[13] الجِرْم: الجسد. الجوهري: الصحاح، باب الميم فصل الجيم 5/1885، وابن منظور: لسان العرب، مادة جرم 12/90، والمعجم الوسيط 1/118.
[15] ابن أرفع رأسه: هو أبو بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي، شاعر المأمون بن ذي النون، وله موشحات مشهورة يغنى بها في بلاد المغرب. ابن سعيد المغربي: المغرب في حلى المغرب 2/18.
[18] يقول د. محمود مكي وهو من المتخصصين في دراسة تاريخ الأندلس: «والحق أننا لا نعرف كيف فعل ابن حيان لكي يُقَدِّم إلى المأمون هذه «الهدية» من تاريخه، وهو الذي وصف مساوئ أسلاف ابن ذي النون ومفاسد حكمهم ما لا نعتقد أنه يعجب هذا الأمير أو ينال منه أدنى قبول. والأعجب من ذلك في هذا التناقض هو ما نراه في فقرات أخرى ينقلها ابن بسام كتب بها ابن حيان إلى المعتمد بن عياد يهنئه بفتح قرطبة وظهوره على المأمون بن ذي النون... والغريب هنا هو أن ابن حيان يرمي المأمون بن ذي النون بأسوأ التهم، مع أنه هو الذي أهدى إليه من قبل تاريخه وطرزه باسمه». مقدمة تحقيق د. مكي لقطعة من المقتبس ص39.
التعليقات
إرسال تعليقك